الفصل الثاني
عاد ادراجه ولكن اللوعة تخنقه وملامح الحزن اخذت منه كل مأخذ ..
اجل فهو لا يزال
باكيا .. يجرجر صغاره الثلاثه وهم يتأوهون ويمدون بأيديهم و ابصارهم نحو
القبر يناجون من فيه ويناشدونها لكي تعود معهم .. فمن لصغار لا يتجاوز
اكبرهم الثمان سنين غير امهم .. يجرهم وهم يجرونه محاولين الفرار ليعودوا
ويتمروغوا على تراب قبر امهم ..
اخذوا يجرون وهو يجرهم .. الى ان خارت قواه .. وسقط راكعا على ركبتينه
وسبقته دموعه الى الأرض ..
وافلتوا
منه مهرولين نحو ذلك القبر ... عجبي فلم اكن اتوقع بأن هذا الجبل الأشم
يتهاوى منكسرا كل هذا الإنكسار !!! ... أرق قلبه للهفة الصغار؟؟ ام لأنه لم
يحتمل فراقها عنه فخارت قراه .. ظل هناك يبكي ويدرف دموع عينيه ويسقي جفاف
التراب الذي بين ركبتيه .. التفت الى صغاره الثلاثه ورآهم يمرغون وجوههم
وشعورهم بتراب القبر .. وبكائهم يضج به هدوء المكان ..
.. ربما تسألني كيف عرفت بأنهم صغاره .. وكيف أقولها بكل ثقه وانا لم أحدد
هويتهم بعد !!
أجل هم
صغاره فقد عرفت ذلك من نظراتهم له .. وانقضاضهم بشغف ٍ الى احضانه حين رجع
ليأخذهم .. وكأنه الملاذ بعدها .. فلم يبقى لهم سواه ... احتضنهم جميعا
وضمهم الى صدره .. قبلهم في جباههم .. ومسح على رؤوسهم .. وكفكف دموعهم ..
وحملهم الى الدار معه .. أجل كفكف دموعهم ولكن لم يجد من يكفكف له دموعه ..
فأنيسه يرفد تحت التراب ..
لكني سألت نفسي سؤالا لا زال يؤرقني فأنا لم استطع تفسير ما حدث ... فقد
حفر الرجل اربعين قبرا .. ولكل قبرٍ جعل شاهد يشير اليه .. و صب الماء
عليهم جميعهم .. إلا هذا القبر فلقد تركه مبهما لا اثر يشير لكونه قبرا !!!
لماذا ترك قبرها هكذا .. لا رسم ٌ يميزه و لا وشمُ يبينه ولا شاهدٌ يدل
عليه !!!
بل على
العكس تعمد ان يبقيه مساويا للأرض .. الم يستثرك المشهد كما استثارني ؟؟؟
الا يخاف
ان تدوسه الأقدام ؟؟ !! او ان تخفيه الأيام ؟؟!! وينساه الزمن !!!
تركه هكذا وعاد
مع صغاره الثكلى الى الدار ..
.. وصل الى الدار وكأنه لم يرد ان يدخلها .. فهاهو يمشي متثاقل الخطى ..
وكأنه يساور نفسه بألا يدخل .. فأطياف الوحشة تحوم حولها ... ونسائم اللوعه
تنتشر في جنباتها .. نظر الى بابها .. وكأنه يخاطبه و يعاتبه .. استند الى
الجدار سويعة .. ثم تنهد ودخل ..
صلا صلاته من
جلوس .. ولا اظن بأنه فعلها من قبل .. وحينما انتهى لجأ الى احدى زوايا
الدار .. جلس ووضع رأسه بين ركبتيه وأخذ يبكي بكاءا لو
يسمعه الصخر لتفتت وتلاشى ...
فتلك دموع الرجال لا تنهل الا
للبلايا العضال ..
مضت بضع سويعات .. فإذا بالباب يطرق ... طرق ثقيل متواصل .. رفع رأسه في
هوادة وهدوء ..
كانت
عيناه محمرتان من البكاء .. شاحب الملامح من السهر .. مقبوض القلب من الحزن
والأسى ...
توجه متثاقلا
نحو الباب .. فتحه ويا ليته لم يفعل ... فهاهو في طرفة عين تتغير ملامحه من
حزن الى غضب ومن هدوء الى عاصفه ولكنه يكبتها ...
سألهم وهو
يكتم غيضه خلف طيات لسانه .. ما تريدون ؟؟ وما الذي اتى بكم ...
كانوا
ثلاثة على ما اظن .. وكان جلاوزتهم وعبيدهم ينتظرون خلفهم في صمت .. اجابوه
في خبث ٍ وتملق .. كيف تدفن جثمانها من غير ان نصلي عليها ومن غير ان نحضر
جنازتها ..
اولسنا
اقرب المقربين من ابيها اولسنا اصحابه وسمرائه...
ودار
بينهم كلام طويل .. ومن خلاله عرفت بأنها ابنة عزيز قومه .. ابنة رجل
انقادت له القوم طوعا وكرها .. فهي ابنة ملك او شاه او عظيم او
ما شابه ...
لكن كيف
تكون ابنة ملك وهي تسكن في مثل هذه الدار العتيقه .. دار اثاثها رحاً
أبلاها الزمن ودارت بعدد أيمامحه ... وفرشها سعف نخل كلما حركته
الريح تكسر شيئا فشيئا .. !!!!
لكني لا
اخال الا انها ابنة كبير هذه القبيله ...
اجابهم الرجل في غيض يتحشرج في احشائه .. كيف تريدون الصلاة على جثمانها !!
عجبي منكم اولم
تكن الصلاة على ابوها بأولى .. اولستم من تآمر على طمس ذكره !!! اولستم
اصحابنا بالأمس القريب .. وذكرهم بفعلتهم واشار الى الباب والى الدم الذي
لم يبرد على الأعتاب .. والى رماد النار الذي بقى كوشم على جدران الدار ..
وصمت حيث غصّة في حنجرته اللوعه ..
اجابوه بكل جساره وخسه .. اخبرنا اي القبور قبرها ؟؟
فنحن
عازمون على نبش القبر واخراج الجثمان والصلاة عليه ... !!!
ماذا يقول
هؤلاء !!! اويصح هذا !!!
ايرضى
الله بنبش قبر يهودي لكي يرضى بنبش قبر مسلم ؟؟!!
عجبي كل
العجب من هكذا جساره على تشاريع السماء !!!
حينها
تلون الغضب في عيني الرجل .. وكأنه لم يكن هو ... امسك بتلابيب المتكلم ...
وعنفه وصرخ في وجهه ... خسأت وخسأ من معك ... اروني من فيكم الرجل الذي
يجرأ على فعل هذا ؟؟
ولكنهم
سرعان ما اشاحوا بوجوههم عنه .. واستداروا وهم يخاطبونه ... ها نحن عازمون
على نبش القبور كلها وارنا ما انت صانع ..
عجبي ألهذا الحد يستصغرون بأسه !!! ولكنهم لو كانوا كذلك لم اذا جاؤا
ليستأذنوه ؟؟!!!
اذا هو ذا
شأن وصاحب رأي .. !!
آه يا
لهذا الغموض الذي لا يزيدني الولوج فيه الا تيها
!!! ...
.. ولكن اجيبوني
اي سر ياترى وراء هذه المرأة لكي يصرون على نبش قبرها ؟؟ !! واخراج جسدها
... والى ما يرمون ؟؟ !! اسئلة تجرها اسئله ويبقى الغموض سيد الموقف ..
تركوه غير عابئين بغضبه ... وتوجهوا لفعل جريمتهم ... لكنه سرعان ما دخل
الى الدار ... متوجها لسيفه المعلق على الحائط في وسطها ... انتزعه من غمده
.. ولبس سترة صفراء اظنه كان لا يلبسها الا في حربه .. وخرج مهرولا ورائهم
مقسما بربه الا ليزلزل الأرض من تحت اقدامهم وينتزع الرؤوس من رقابها .. و
يملأ المدينة بالنوائح والثواكل او ليرجعوا عن قصدهم ...
لمحوه من بعيد
.. ولمحوا بريق سيفه الذي أخذ يتلون مع ضوء الشمس .. وتذكروه .. أجل تذكروه
...
فأخذوا يتصارخون
جائكم خواض الغمرات .. جائكم مفرق الجماعات ... جائكم حاصد الرؤس يوم
الحراب ... فأخذوا يتفاررون منه في كل جانب ... الى أن لجؤوا الى شيخ كبير
.. كان الوقار سمته .. واستغاثوا به .. واستجاورا لديه .. ولما وصل لهم ..
طلب منه الشيخ ان يعتقهم فقبل على مضض ...
سؤالٌ آخر حيرني في هاهنا .. هم يعرفون بأنه فارس مقدام ويعلمون بأنه
لو شهر سيفه لما ابقى منهم أحدا .. ولو كانوا لا يعلمون لواجهوه خاصة وهم
كُثُر... لكن لماذا في بداية الموقف كانوا آمنين بأسه .. وكانوا واثقين
بأنه لن يفعل بهم شيئا .. !!! لكنهم في النهاية انهزموا ولجؤوا الى رجل
كانوا واثقين بأنه يحترم رأيه ليستجيروا لديه منه ...
هنا انذرهم و رجع الى الدار كسيرا متأثرا من فعال القوم .. وجلس حيث كان في
نفس الزاويه .. جلس جلسته الأولى .. وأجهش في البكاء من جديد ... ولكنه في
هذه المره بكى بصوت آخر بكى بصوة يشوبه الألم .. وتأوه تأوه
المطعون في قلبه برمح ذي شعب ...
..
..... حل الليل ... خرج من داره متسلللا كيلا تلمحه الأبصار ...
توجه نحو
المقبره قاصدا مكان القبر المخفي ..
اخذ يتحسس جوانب القبر بأنامله رويدا رويدا ودموعه ترسم حدود القبر معه
وكأنه الأب الحنون الذي يمسح على رأس صغيره ... انحنى فجأة نحو جهة الرأس
.. وقبل التراب مكانه قبلة عرفان وجلس يقرأ القرآن الذي يحفظه عن ظهر قلب
..
ولكنه بين
الحين والحين أراه يعاتبها على تركه وحيدا بين هؤلاء الذءاب .. وتارة
يذكرها بأيامهم الخوالي حيث كانه انسه وسلواه ..
و
ها هو كل ليلة يفعل نفس الشيء .. يتربص لحظة سهاد العيون .. وذبول الجفون
.. ليخرج متسلسلا نحو المقبره .. ولا يعود الا مع آذان الفجر لكي لا تراه
الأبصار ... ويكتشفوا سره ... و ليبقى السر المدفون .. من هي ومن تكون ؟؟
ولم القوم لها يظلمون ؟؟ |