الصفحة الرئيسية
   الشاعر في سطور
  الإهداء

 

     وكان  الحب      

  مكتبة الدواوين الشعرية      مكتبة القصص          
  مكتبة البطاقات الفلاشية
   مكتبة القصائد  العزائية
    توثيق مزارات البحرين
  مراسلة الإدارة
  سجل الزوار  
 

الحلقة الأولى

طفلان هما في السادسة من العمر .. ملامح البراءة تلون وجهيهما الطفوليين ..

 اعتادا ان يلعبا كل يوم في هذا المكان .. على تلة الرمل الصغيره التي بجوار بيت مريم . ..

 مريم ابنة الجيران الصغيرة الهادئة التي كانت دائما تلعب وحيدة قبل ظهور ميثم .. فلها اخ واحد فقط يكبرها بأربع سنين ..

ميثم الإبن الأصغر لجيران مريم الجدد الذين سكنوا في نفس الحي الذي تسكن فيه مريم مع اهلها .منذ ثلاثة اشهر ..

هنا كانا يلعبان .. يوما تلو يوم وكأنهما متواعدين في نفس الوقت تقريبا .. فقد كانا يحسان بإنجذاب روحي نحو بعضهما البعض... كانا يصيِّران من الكتل الرملية كثبابا وكثبان ليتخيلا بأن هذا بيتهما الصغير .. الذي تجمعهما جدرانه الأربعة و تحتضنهما بكل حنان وألفة .. وهذه مدرستهم .. وتلك الحديقه . وهذا السوق ..

 وهناك في اقصى اقاصي الحي الرملي الصغير .. يقع بيت عصام .. الولد المدلل المغرور الذي اعتاد دائما على تعكير صفو خيالهما الطفولي .. بدرّاجته الهوائية الجديدة الحمراء .. فهو في كل يوم يهرع كالقذيفة ليدهس احلام الصغيرين الطفولية بعجلات دراجته.. والذي اصبح
كابوسا مزمنا يؤرق صفو حلمهما الهاديء البريء .. ويسرع متبخترا ضاحكا ساخرا منهما وكأنه حاز نصرا في معركة .
كان عصام على صغر سنه الا انه كان سيء الصيت .. كان مشاغبا لحد الجنون .. لا يبرح الا وقد نال منه اطفال الحي ما نالوا من شغب ..

 لا ادري لماذا يفعل كل ذلك .. ربما لأن والداه ربياه على الإعتزاز بالذات والكبرياء الهستيريه .. وعلى انه هو الأفضل .. وكل رغباته أوامر .. مهما كان جنسها ..

 فهو ابن الحاج عباس تاجر القماش المعروف .. وصاحب المعارض الشهيرة .. وما كان ابو مريم الا عامل بدّالة صغير راتبه يكفي ولله الحمد العائلة الصغيره عن ان تمد يدها للطلب من الناس .. وابو ميثم . ما كان الا أجيرا لدى احدى الشركات كسائق شاحنه .. يكدح طوال النهار .. وجزىء كبير من الليل وراتبه بالكاد كان يكفي ليسكت جوع ثلاثة عشر بطنا .. هم اولاده وبناته الذين كان اكبرهم لا يتجاوز الثامنة عشرة سنة .. وهم ابناء زوجتيه الإثنتين ..
كان ميثم يتمنى دائما بأن يقتني دراجة هوائيه .. لا لشيء ... فقط ليثبت لمريم بأنه ليس دون عصام ... وكان يتخيل نفسه دائما بأن أبوه اشتراها له .. ولكنه يبقى حلم .. فهو للمرة الثالثة يطلب من ابيه نفس الطلب .. ولكن لا فائده ..

لم يعتد ميثم الولد الصغير الهاديء الخجول ان يطلب من ابيه شيء ابدا .. فهو على صغر سنه يعرف بأن ابوه لا يستطيع .. فأبوه لو اوتي له ان يقطع من لحمه قطعة ليطعم ابنائه لما تردد في فعل ذلك .. ولكنه لا يستطيع .. فالحاجة والعوز تمنعه من ذلك ..

 ولكنه في هذه المره طلبها .. ربما لأنها كانت رغبة ملحة لديه .. فلا أظنه ينسى كيف كان عصام يتبجح بدراجته امام اطفال الحي .. ولا اعتقد بأنه سينساه.. واحلامهما البريئة تدهس تحت عجلات دراجته .. ففي كل يوم تقريبا كان يفعل نفس الشيء .. لا اظنه ينسى كيف كانت مريم تبكي وتبكي بعد ان تشاهد بيتهما الرملي قد اصبح ركاما لا يرمز إلا الى الخراب واللآشيء ..
كان ميثم دائما يحاول اسكات مريم .. يحاول مسح دموعها ولكن لا فائده .. فدموع الصغيرة ليس لها قرار تظل كالميزاب الذي لا يتوقف مسيله .. واحيانا كثيرة كانت تركض مسرعة باكية نحو باب البيت الذي يحجبها عن عيون ميثم ..

 فهو لم يتجرأ قط على الدخول لمنزل مريم .. فأمه كانت تحذره من فعل ذلك .. مخافة أن ينعكس الموقف .. فتأتي مريم لبيتهم .. وقد يتطور الموقف لمجيء امها للبحث عنها او للسؤال على الأقل .. فتطّر هي ان تدخلها من مبدأ الواجب .. ولكنها لا تملك ما تضيفها به..

فلا استطيع ان  أصف لكم كيف كانوا يقتسموا الخبز وما تبقى من لبن بالتساوي .. ليسكنوا تأوهات بطونهم الجائعه .. ففي اغلب الأوقات لا يشبعون فقط يهدؤا من روع جوع بطونهم .. فقد كانت أم  ميثم  تتجنب الإحتكاك بالجيران من هذا المنطلق .. فمن اين لها ان تضيفهم ..
 كان  ميثم كان يتحسر دائما بعد تواري مريم خلف الباب الحديدي ...

  لم يكن يتمناها ان ترحل .. فلا انيس له سواها .. واحيانا كان يخاف ان يتهمه ابوها بأنه من ابكاها .. فغالبا  كان  يسارع للدكان ليشتري لها من مصروفه آيسكريم التوت الثلجي الأحمر .. ويعطيها اياه لتبدأ في لملمة بقايا دموعها وتسكت ..

 كان مصروفه لا يتجاوز المائة فلس يوميا .. وكان آيسكريم التوت يقتطع نصف مصروفه .. والنصف الآخر كان يدخره لشراء دراجة هوائية مثل دراجة عصام ..

 فقد استطاع حتى هذا اليوم ان يجمع ما يقارب الثلاثة دنانير .. كان فخورا بنفسه .. وفخورا بما يفعله .. لم يكن يدري بأن سعر الدراجه يفوق ما استطاع ان يجمعه بعشرة اضعاف على الأقل  .. ولكنه كان فرحا بما استطاع جمعه .. كان يصارح مريم بهذا اجل مريم فقط من كانت تعلم بما ينوي فعله بالنقوذ ..

و كانت تقول له بأنها تتمنى لو أن يركبها خلفه على الدراجه التي سوف يشتريها .. وان يلف بها ارجاء الحي كله .. احلام كبيرة من كائنات صغيره ..

 تتلون  حسب امزجتهم حيث لا تقف  عند  حد  .


 

الحلقة الثانيه
مرت الأيام تلو الأيام واحلام الصغيرين تسبقهما بسنين .. كانا لا يفارقان بعضهما تقريبا .. حتى بعد ذهابهما للمدرسة .. كانا يتفقان على أن يلتقيا قرب التلة الصغيره بعد عودتهما ليقوما باللعب معا .. وتحويل الكتل الرملية الهامدة الى مدن ٍ وبيوتاتٍ وشوارع ..
كانا على هذا المنوال لم ينقطعا ابدا عن فعل نفس الشيء كل يوم ....

 الى ان جاء ذلك اليوم الذي قرر ان يزوي احلام الصغيرين في زاوية النسيان .. فاليوم لم تحظر مريم .. تعجب ميثم كثيرا فليست هذه عادتها .. انتظرها .. وانتظرها ... حتى تيقن بأنها لن تأتي .. التفت نحو باب بيتها الحديدي القديم .. الذي يخفي خلف جناحيه الغموض واللامعلوم ..

 قرر ان يتجرأ ولو لمرة ويطرقه .. تقدم في خطوات متلكأة نحو الباب ..

 مدّ يده ..... قبظها فجأة .. فهو قد تراجع عن قراره .. لأنه لا يملك الجرأة الكافيه وروح المغامره بحيث يستطيع ان يقدم على مثل هذه الخطوه .. فهي خطوة جريئة لكشف اللامعلوم .. ضل متسمرا مكانه .. لا يدري كيف سولت له نفسه فعل هذا الشيء ..

 تراجع خطوات نحو الخلف .. قرر الجلوس على العتبة المقابلة للباب .. جلس في صمت وتأمل .. .. وضع كفيه على خديه .. ورأسة بين ركبتيه ولكنه سرعان ما رفع رأسه وبقت عيناه متوجهتين نحو الباب .. بل دعوني اقول بأنهما لا يريان غيره .. كان يشعر بأ نه طودٌ عظيم وسد جبار .. لا يستطيع أحد أن يتجاوزه ..

 كان يتخيله كباب القلاع الحربيه القديمه التي أروهم صورها في المدرسه .. والتي هيأت لأجل صد العدو .. تخيل أيضا بأن خندقا مهولا ملأ بما لا يستوعبه العقل من مياه البحر الهائجة ... حفر حوله ...
ظل متسمرا هكذا طوال الوقت .. صامتا لم يبدي اي حس .. ما عدا تلك التنهدات التي تخرج تلقائية منه في اللاشعور ..

 كان يحاكي نفسه .. يتسائل اين مريم ؟؟ لماذا لم تخرج اليوم ؟!! أتراها مريضه ؟؟ بل ربما سافرت مع أهلها لمكانٍ بعيد .. لعلها لم تذكرني قبل أن تسافر ... فلو ذكرتني لأتت لوداعي ..

تغير فجأة مسار الحديث مع نفسه .. انتقل من حسن الظن لسوء الظن .. فهو قد عجز من التبريرات .. لعلها يأست من وعودي .. فأنا لم استطع أن اجمع قيمة الدراجه لحد الآن ... فلعلها ذهبت للعب مع عصام على دراجته الجديده .. فربما هو الآن يلف بها ارجاء الحي وهي تضحك فرحة...

يئس من الجلوس .. حيث حل الظلام وغطى المكان .. فهي لن تأتي اليوم ...

وقف متثاقلا ادار ظهره للباب .. وتوجه منكسرا نحو البيت ... حيث حمل تساؤلاته وظنونه معه ... فعدم مجيء مريم شيء لا يستطيع تصوره ..

الحلقة الثالثة


هاهو يعود في اليوم التالي يعود على الموعد .. جلس ينتظرها قرب التلة .. تأخرت قليلا فبدأ يلملم بكفيه كتلا صغيرة من الرمل ..علها تخرج ليستأنفا اللعب .. بدأ يصنع ما يشبه البيت الصغير يحوطه سورٌ عال ٍ ويتوسط هذا السور باب او ما يشبه الباب .. ولكنه سرعان ما اخذ في يده عصاةً صغيره وأخذ ينخر في ذلك الباب حتى أزاله ولعله استحسن المنظر فملامحه البريئة بدا عليها ذلك ..
استرسل في العبث بالكتل الرملية ولكنه فجأة توقف .. وكأنه تذكر شيئا مهما ..

 وبدأ يسأل نفسه .. مريم !! لم تأت مريم !! فهي لم تخرج اليوم أيضا !!

تأخرت كثيرا ليس من عادتها ان تتأخر .. نوجه نحو الباب تجرأ ثانية وحاول طرقه . . ولكنه في هذه المرة ايضا تسمر مكانه وتراجع في اللحظة الأخيره .. تقهقر للوراء وعاد ليجلس في نفس المكان .. وجه أنظاره نحو الباب من جديد .. نحو رمز الغموض والمجهول .. جالت في خلده نفس التساؤلات السابقه .. فمريم لم تأت بعد .. تأخرت كثيرا ..ولكنها ستأتي .. حتما ستأتي .. فهو يعرفها جيداً .. ولكنهاللأسف لم تخرج اليوم أيضا ..!!!

رغم مرور اكثر من اربع سنوات لم يتخلى ميثم عن عادته فهو اليوم في العاشرة من عمره تقريبا .. اعتاد الجلوس في نفس المكان .. بل في نفس الزمان كل يوم .. ولكنه لم يترك عادته ..او لعله قد الف المكان ..او لعله حنين الماضي .. فحضن الطفوله دائما يكون ذا طعم آخر ومختلف ..

 أو ربما لأن ميثم لا يفضل الإختلاط بأطفال الحي لكونه من عائله فقيره وهم من أسر ميسورة الحال .. فهو رقيق المشاعر وحساس .. فطالما جرحت مشاعره من مواقف عادية جدا ..
 ولأدلل على كلامي .. في احدى المرات كان ميثم  يتمشى مع اقرانه وتوجهوا لمقصف المدرسة .. فأخذوا يصرفون بسخاء على أنفسهم .. هذا الموقف أثر في نفسه كثيرا ... فهو لا يستطيع ان يفعل مثلهم .. فمصروفه اليومي لا يتجاوز المئة فلس .. والمئة فلس لا تكفي لكل هذا ..

فهو اما ان يأخذها معه للمدرسة ويشتري له بها مشروبا غازيا او عصيرا .. ويحضر معه ما يأكله من البيت .. او انه يفعل العكس .. وكذلك في الملابس يرى اقرانه يتقلبون في الماركات العالمية ويشترون من المحلات المشهورة .. ويتبجحون بذلك وهو لا يستطيع ان يلبس مثلهم ..

 حتى في احدى المرات كان يلبس قميصا كان قد اعطته جارتهم لأمه لكي تلبسه اياه ولكنه لم يفعل .. خوف أن يراه ابن الجيران وهو يلبس القميص الذي كان هو الذي يلبسه في يوم من الأيام وقد استغنى عنه ..
هكذا كان ميثم يفكر وهذا ما جعله ينزوي عن الأقران .. ويفضل الوحده .. ويستأنس الجلوس مع الذكريات ..

 فالتلة الصغيره كانت كل حياته وذكريات طفولته .. ومريم كانت بالنسبة له شيء ثمين لا يستطيع أن يفرط فيه بسهوله فهي أنسه الوحيد .. و ليست مجرد ذكريات مضت ولن تعود ..
كل يوم كان ميثم على هذا المنوال .. يقضي كل اوقات فراغه تقريبا على تلك العتبة المقابلة لباب بيت مريم ..

 اليوم أتى ايضا ... ولكن اليوم ليس كمثل اي يوم فات .. فقد جاء ومعه بشرى سارة لا بد لمريم ان تسمعها فهي صاحبة الشأن .. يجب أن تخرج اليوم .. لا بد ان تخرج .. فقد استطاع جمع ثمن الدراجة الهوائية أخيرا .. استطاع ان ينتصر على الفقر والحاجه .. ليحقق امنيته .. بل امنية مريم ..

 أو لعلها أمنيتهما كليهما .. لا بد أن تخرج لتسمع البشرى .. تخيل نفسه على الدراجه .. ومريم خلفه ... يجول بها أزقة الحي الصغير او الذي كان صغيرا فهو لم يعد كما كان .. فمع مرور السنين تبدل ما تبدل وتحول ما تحول .. وتغيرت ملامحه السابقة .. تمنى ان تخرج اليوم ليزف لها الخبر .. ولكنها لم تخرج ايضا ..

 جلس في نفس المكان الذي اعتاد الجلوس فيه .. ووجه انظاره للباب نفسه الذي لم يتغير رغم تغير ملامح محيطه ..

جالت في خاطره تساؤلات جديده هذه المره .. لماذا يا ترى لم تخرج .. أو بالأصح لماذا لا تخرج للعب معي .. أهي يا ترى سئمت مني ؟!! أم أن أهلها منعوها من اللعب معي ..؟؟ أم ربما أنا قد تصرفت تصرفا غير لائق في حقها ؟؟!! أم ربما قد وجدت لها أنيسا غيري فتركتني ؟؟!! او ربما لأن ابي فقير ونحن فقراء وهم بحال افضل منا قد تركتني .. ؟؟
تجرأ ميثم من جديد محاولا طرق الباب .. مد يده .. ولكنه قبضها .. فرغم مرور السنين لم يستطع ميثم ان يتجرأ ويفعهلها ..

 ومن جديد رجع للجلوس مكانه والخيبة تفضح ملامحه ..


الحلقة الرابعة

تمر الأيام تجرها الأيام .. وميثم على هذا الحال .. ففي كل يوم
تراه هاهنا في نفس المكان وفي نفس الزمان .. يا عجبي منه فلم ينل اليأس منه أبدا .. فعمره الآن خمسة عشر سنه ولم ينسى .. ولازال وفيا لذكرياته ..

سنين مرت وهو على هذا المنوال .. شغله الشاغل مريم .. الذي لا زال يتخيلها كما كانت .. طفلة صغيرة مذللة .. هادئة .. يتذكرها جيدا .. فلم تفارقه ملامحها لحظه .. يتذكرها جيدا .. يتذكر التلة الرمليه التي كانت هناك .. يتذكر كيف كانا يلعبان معا عليها .. يتذكر البيت والمدرسه والسوق كل ذلك يتذكره .. تعلوا شفتاه ابتسامة عريضة حين يتذكر كل هذا .. ولكنها سرعان ما تتبدل لعبوسٍ وغضب .. حين يتذكر عصام .. ويتذكر ما كان يفعله بأحلامهم ..

 وأيضا يتذكر جيدا اليوم الذي جائت فيه الجرافات والعمال ليزيلوا التلة الصغيرة من مكانها .. لترتفع مكانها تلك البناية الشاهقة ..

 يتذكر يومها بأنه بكى .. أجل بكى .. فلا أحد يدري بأنه يملك في داخله احساس بالإنتماء لتلك التلة .. كان يحس مع كل ضربة معول بأنها ترتطم بقلبه ..

 كان يتذكر ذلك اليوم جيدا .. ولا أظن بأنه ينساه .. فها هو يبكي من جديد كلما تذكره .. بكى مثلما كل مره .. دموع تهطل على خذيه ليس لها قرار .. وكأنه تذكر شخصا عزيزا قد فقده ..

 أدار وجهه للباب الموصد من جديد .. والذي اصبح صاحبه الوحيد .. الذي طالما كان يعاتبه و يشكو له آلامه .. يحكي له امنياته .. وكأنه يسمعه .. سنين مرت وهو هكذا .. كان الباب أنيسه الوحيد .. اختزل ذاكرته في هذه اللحظة .. ارجع السنين .. تذكر أخر مرة رآه عندما ارتطمت كفتيه على بعضهما .. ليغلق للأبد .. لم يراه فتح بعدها ..

 تذكر يومها حين أسرعت مريم نحو الباب باكية بعدما قام عصام بدهس احلامهما بدراجته .. راحت نحو الباب مهروله تبكي .. مرددة بصوت أجّش .. بابا .. بابا .. كان يتذكر ذلك الموقف جيدا .. تغيرت ملامحه .. امتعض ..احمر وجهه .. كان غاضبا أجل كان غاضبا .. تمنى لو ترجع الأيام للوراء .. و لما جعل عصام يفلت من يده .. تخيل نفسه يمسكه من تلابيب ثيابه .. يرميه على الأرض .. يركله برجله ..

 لكنه تيقن بأن هذا الشيء لن يحدث .. ليس لأن الأيام لا تعود .. بل لأن عصام جبان .. أجل جبان .. فهو هكذا دائما يفعل فعلته على حين غرّة ويهرب .. يهاب المواجهة .. وحين يشتكيه أحد لأبوه تراه مختبئً خلف الدولاب الخشبي الذي بقرب باب منزلهم في الحديقه .. يتحسس الأمر .. ليس خوفا من ابوه فأبوه لا يفعل له شيء .. بل لا ينهره حتى في العاده .. بل كان دائما يسكت الشاكين عليه بجملته المعتاده .. (( ماذا نفعل لهم هكذا هم الصغار دائما يتصرفون تصرفات طفوليه .. غدا يكبرون ويعقلون )) !!
 

الحلقة الخامسة

كبر ميثم .. وكبر معه حلمة الكبير أصلا .. حلمه بأن تعود له مريم ..

 لم ينساها رغم كل السنين التي مضت .. اي وفاء هذا الذي يبقى كل هذه السنين فكل شيء تغير حتى ميثم نفسه لم يبقى ذلك الطفل الصغير فهو الآن السيد ميثم مندوب المبيعات في احدى اكبر الشركات الإستثمارية في البلد .. ولكنه لا زال يعيش مع الذكرى نفسها .. فها هو يمر في كل يوم بسيارته المتواضعه في نفس المكان وفي نفس الوقت ..

 والشيء الوحيد الذي تغير هو عدم جلوسه على تلك العتبة المقابلة لبيت مريم .. فلا يصح لشاب في عمره ان يجلس في هكذا مكان .. ولكنه لا زال يعيش الذكريات نفسها كلها بكل تضاريسها الجميلة .. وتجاعيدها المرة .. يمر عامدا في كل يوم على نفس المكان .. ويخفف سرعة السيارة قدر الإمكان ويبقى مع الذكريات ..
وفي ذات يوم وهو يمر على عادته  .. لمح الباب وكأنه يفتح .. اجل الباب الحديدي يفتح ..

 وللأمانه لم يبقى الباب كما كان .. لم يعد الباب حديديا كما كان في سابق عهده .. فقد تبدل بباب من الألومنيوم المزركش ولكن مكانه لم يتغير .. فتح الباب .. تسمر ميثم مكانه .. و إذا بطفلة صغيرة عمرها في عمر مريم الصغيره او التي كانت صغيره .. نفس الملامح ... نفس الإبتسامه نفس الشعر الحريري الأملس المتهدل على الخديين ..

 وسريعا في اللاشعور ظنها هي  ..علت شفتيه  ابتسامة فرح  عريضه  .. بدون ان يفكر بفارق العمر .. لهول المفاجئه فلم يكن يظن بأن هذا الباب سوف يفتح يوما .. فقد ظن بأنه اغلق للأبد .. فعنصر المفاجئة افقدت التركيز .. فلم يستوعب بأنه قد كبر فلا بد لمريم ان تكبر معه ايضا ..

 في لحظات تسمر مكانه .. دق قلبة سريعا .. عرق جبينه .. احمرت ملامحه ... كاد ان يناديها لولا انه التفت بأنها ليست هي .. فلابد بأن تكون مريم قد كبرت .

. و سرعان ما انفتح الباب اكثر لتظهر من ورائه مريم .. اجل مريم الشابة ذات الأربعة والعشرين سنه .. مريم التي كانت في عمر هذه الصغيرة يوما .. جائت لتدخل اختها الصغيره للداخل خوفا عليها من السيارات العابره والمتهوره ..

 التفتت للسيارة الواقف امام الباب .. والتفتت للسائق داخل السياره .. تعجبت .. انبهرت ...

لا املك هنا التعبير الذي يناسب هذا الموقف ..

 الأهم في الأمر بأنها ابتسمت .. ابتسمت ابتسامة يلفها الخجل .. فقد عرفت بأنه ميثم ..

 لعلها لم تستغرب من وجوده هنا .. فقد كانت طوال تلك الفترة تراقبه من وراء النافذة العلوية للمنزل .. فمنذ ذلك اليوم وهي تتمنى الخروج واللعب على كثبان التلة الرملية الصغيره معه ... ولكن ابوها كان يمنعها .. فقد بلغت مبلغ النساء .. أصبحت  في التاسعة التاسعة من العمر .. فلا بد ان تتحجب .. ولا بد بأن تمتنع عن اللعب مع الأولاد .. ولا بد بأن لا تخرج الا مع امها .. ولا بد ولا بد ولا بد .. الخ ..

 اجل هذا ما منعها عن الخروج واللعب طوال تلك الفترة .. ولكنها لا تزال تكن لذكريات الطفوله مكنونات خاصه .. ولا زالت تحتفض بمساحة لها في قلبها .. ولا تزال تتذكر كيف كان ميثم بعد غيابها يحظر في كل يوم لنفس المكان و يجلس على نفس العتبة المقابلة لباب دارهم .. تتذكر كيف كان احيانا .. اجل احيانا كثيره يتوجه للبقالة القريبة ويشتري آيسكريم التوت الأحمر المثلج . ويجلس ساعات في انتظارها لكي تخرج وتأخذه .. ولكنها لا تأتي ..

 و تتذكر كيف كان آيسكريم التوت يذوب بفعل حرارة الشمس وكيف كان ميثم ينظر اليه في تحسر والم .. فهي لم تأتي لتأخذه ...

 وكيف كان يضعه على تلك العتبة برفق .. لعلها تأتي لتأخذه .. واجل كانت تتذكر كيف كان عصام احيانا كثيره يترصد ويتحين الفرص لينهب الآيسكريم  من يد ميثم .. لا ليأكله بل ليضعه تحت عجلات الدراجه .. ويتلذذ وهو يراه يتناثر ذرات ذرات ليلون المكان .. وليتلذذ وهو يشاهد اعتصار ميثم وغضبة ..

 وتتذكر كيف كان ميثم يقاومه ما استطاع لذلك سبيلا .. ولكن كيف له ذلك .. وعصام يحتمي بثلاثة من فتية الحي المتملقين الذين يغدق عصام عليهم ماشاؤا من مصروفه الكبير الذي يستلمه من والده ..

كانت واثقة من مشاعر ميثم وصدق نواياه .. كانت واثقة بأن هذا القلب الكبير الصافي لا يملك ان يفعل شرا بأحد ..

كانت واثقة بأنه سوف يأتي يوما ليدق الباب الذي طالما تسمر امامه وتردد بأن يدقه ...

وهنا تغيرت ملامحها احمرت وجنتها وتعرق جبينها وادارت وجهها خجلة وهي تجر اختها الصغيره الى الداخل وتغلق الباب من جديد ..

 ولكن ميثم في هذه المره كان واثقا بأن هذا الباب هذه المره سوف يفتح مجددا وسون يقتحمه ليكتشف غموضه فقد عرف حينها بأن كل هذا كان هو الحب .